كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَهُمْ يُوزَعُونَ} معناهُ يُردّ أولهم. إلى آخرهم ويُكفّون.
قال قتادة: كان لكل صنف وَزَعة في رتبتهم ومواضعهم من الكرسيّ ومن الأرض إذا مشوا فيها.
يقال: وزَعته أوزعه وزَعَا أي كففته.
والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم.
روى محمد بن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى تعني يوم الفتح قال أبو قحافة وقد كُفَّ بصرُه يومئذٍ لابنته: اظهري بي على أبي قُبَيْس.
قالت: فأشرفت به عليه فقال: ما ترين؟ قالت: أرى سوادًا مجتمعًا.
قال تلك الخيل.
قالت وأرى رجلًا من السواد مقبلًا ومدبرًا.
قال: ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر.
وذكر تمام الخبر.
ومن هذا قوله عليه السلام: «ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزُّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر» قيل: وما رأى يا رسول الله؟ قال: «أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة» خرّجه الموطأ ومن هذا المعنى قول النابغة:
على حينَ عاتبتُ المَشيبَ على الصِّبَا ** وقلت أَلَمَّا أَصْحُ والشَّيْبُ وازِعُ

آخر:
ولما تَلاقَينا جرت من جُفوننا ** دموعٌ وَزَعْنا غَرْبَها بالأَصابِعِ

آخر:
ولا يَزَعُ النفس اللَّجُوجَ عن الهوى ** من الناس إلا وافرُ العقل كامله

وقيل: هو من التوزيع بمعنى التفريق والقوم أوزاع أي طوائف.
وفي القصة: إن الشياطين نسجت له بساطًا فرسخًا في فرسخ ذهبًا في إبريسم، وكان يوضع له كرسيّ من ذهب وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة.
الثانية: في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وَزَعة يكفّون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض؛ إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم.
قال ابن عون: سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال: والله ما يُصلح هؤلاء الناسَ إلا وَزَعةٌ.
وقال الحسن أيضًا: لابد للناس من وازع؛ أي من سلطان يكفهم.
وذكر ابن القاسم قال حدّثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول: ما يزَعُ الإمام أكثر مما يزَعُ القرآن؛ أي من الناس.
قال ابن القاسم: قلت لمالك ما يزع؟ قال: يكف.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمته.
قال: فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامّة كافة قائمة لقِوام الخلق، لا زيادة عليها، ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها، ولكن الظلمة خاسوا بها، وقصروا عنها، وأتوا ما أتوا بغير نية، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها، فلم يرتدع الخلق بها، ولو حكموا بالعدل، وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلح الجمهور.
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِي النمل} قال قتادة: ذكر لنا أنه واد بأرض الشام.
وقال كعب: هو بالطائف.
{قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أيها النمل} قال الشعبي: كان للنملة جناحان فصارت من الطير، فلذلك علم منطقها ولولا ذلك لما علمه.
وقد مضى هذا ويأتي.
وقرأ سليمان التيمي بمكة: {نَمُلَةٌ} و{النَّمُلُ} بفتح النون وضم الميم.
وعنه أيضًا ضمهما جميعًا.
وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها.
قال كعب: مرّ سليمان عليه السلام بوادي السَّدير من أودية الطائف، فأتى على وادي النمل، فقامت نملة تمشي وهي عرجاء تتكاوس مثل الذئب في العظم؛ فنادت: {يَأَيُّهَا النَّمْلُ} الآية.
الزمخشري: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال، وكانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس؛ وقيل: كان اسمها طاخية.
وقال السهيلي: ذكروا اسم النملة المكلِّمة لسليمان عليه السلام، وقالوا اسمها حرميا، ولا أدري كيف يتصوّر للنملة اسم عَلم والنمل لا يسمي بعضهم بعضًا، ولا الآدميون يمكنهم تسمية واحدة منهم باسم عَلَم، لأنه لا يتميز للآدميين بعضهم من بعض، ولا هم أيضًا واقعون تحت ملكة بني آدم كالخيل والكلاب ونحوها، فإن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب.
فإن قلت: إن العلمية موجودة في الأجناس كثُعَالة وأسَامة وجَعَار وقَثَامِ في الضّبع ونحو هذا كثير؛ فليس اسم النملة من هذا؛ لأنهم زعموا أنه اسم عَلَم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل، وثعالة ونحوه لا يختص بواحد من الجنس، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثُعالة، وكذلك أُسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك.
فإن صح ما قالوه فله وجه، وهو أن تكون هذه النملة الناطقة قد سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الزبور أو في بعض الصحف سماها الله تعالى بهذا الاسم، وعرفها به الأنبياء قبل سليمان أو بعضهم.
وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها فهذا وجه.
ومعنى قولنا بإيمانها أنها قالت للنمل: {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} فقولها: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} التفاتة مؤمن.
أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألاّ يشعروا.
وقد قيل: إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها؛ ولذلك أكد التبسم بقوله: {ضَاحِكًا} إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، ألا تراهم يقولون تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسّم المستهزئين.
وتبسم الضحك إنما هو عن سرور، ولا يُسرّ نبيّ بأمر دنيا؛ وإنما سُرّ بما كان من أمر الآخرة والدّين.
وقولها: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} إشارة إلى الدِّين والعدل والرأفة.
ونظير قول النملة في جند سليمان: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} قول الله تعالى في جند محمد صلى الله عليه وسلم:
{فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25].
التفاتًا إلى أنهم لا يقصدون هدر مؤمن.
إلا أن المثني على جند سليمان هي النملة بإذن الله تعالى، والمثني على جند محمد صلى الله عليه وسلم هو الله عز وجل بنفسه؛ لما لجنود محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل على جند غيره من الأنبياء؛ كما لمحمد صلى الله عليه وسلم فضل على جميع النبيين صلى الله عليه وسلم أجمعين.
وقرأ شهر بن حوشب: {مَسْكَنَكُمْ} بسكون السين على الإفراد.
وفي مصحف أبيّ {مَسَاكِنَكُنَّ لاَ يَحْطِمَنْكُمْ}.
وقرأ سليمان التيَّمي {مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنْكُنَّ} ذكره النحاس؛ أي لا يكسرنكم بوطئهم عليكم وهم لا يعلمون بكم.
قال المهدوي: وأفهم الله تعالى النملة هذا لتكون معجزة لسليمان.
وقال وهب: أمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد بشيء إلا طرحته في سمع سليمان؛ بسبب أن الشياطين أرادت كيده.
وقد قيل: إن هذا الوادي كان ببلاد اليمن وأنها كانت نملة صغيرة مثل النمل المعتاد قاله الكلبيّ.
وقال نَوْف الشامي وشَقيق بن سَلَمة: كان نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم.
وقال بُرَيْدَة الأسلمي: كهيئة النعاج.
قال محمد بن علي الترمذي: فإن كان على هذه الخلقة فلها صوت، وإنما افتقد صوت النمل لصغر خلقها، وإلا فالأصوات في الطيور والبهائم كائنة، وذلك منطقهم، وفي تلك المناطق معاني التسبيح وغير ذلك، وهو قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
قلت: وقوله: {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} يدل على صحة قول الكلبي؛ إذ لو كانت كهيئة الذئاب والنعاج لما حطمت بالوطء؛ والله أعلم.
وقال: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} فجاء على خطاب الآدميين لأن النمل هاهنا أجري مجرى الآدميين حين نطق كما ينطق الآدميون.
قال أبو إسحاق الثعلبي: ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال لها لِم حذّرتِ النمل؟ أخفت ظلمي؟ أما علمتِ أني نبيّ عدل؟ فلم قلت: {يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} فقالت النملة: أما سمعت قولي {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} مع أني لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت، أو يفتتن بالدنيا، ويشتغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر.
فقال لها سليمان: عظيني.
فقالت النملة: أما علمت لم سُمِّي أبوك داود؟ قال: لا.
قالت: لأنه داوى جراحة فؤاده؛ هل علمت لم سُميت سليمان؟ قال: لا.
قالت: لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك، وإن لك أن تلحق بأبيك.
ثم قالت أتدري: لِمَ سخر الله لك الريح؟ قال: لا.
قالت: أخبرك أن الدنيا كلها ريح.
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا} متعجبًا ثم مضت مسرعة إلى قومها، فقالت: هل عندكم من شيء نهديه إلى نبيّ الله؟ قالوا: وما قدر ما نهدي له! والله ما عندنا إلا نبقة واحدة.
قالت: حسنة؛ ايتوني بها.
فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها، فأمر الله الريح فحملتها، وأقبلت تشق الإنس والجن والعلماء والأنبياء على البساط، حتى وقعت بين يديه، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفّه، وأنشأت تقول:
ألم تَرنا نُهدِي إلى الله مَا لَهُ ** وإن كان عنه ذا غنى فهو قابلُهْ

ولو كان يُهدَى للجليل بقدره ** لقصّر عنه البحرُ يومًا وساحلُهْ

ولكننا نُهدي إلى من نُحبُّه ** فيرضى به عنا ويشكر فاعلُهْ

وما ذاك إلا من كريمٍ فعالُه ** وإلا فما في ملكنا ما يشاكلُهْ

فقال لها: بارك الله فيكم؛ فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله وأكثر خلق الله.
قال ابن عباس: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: الهدهد والصُّرَد والنمّلة والنحلة؛ خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبد الحق وروي من حديث أبي هريرة وقد مضى في الأعراف فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم، فنفت عنهم الجور؛ ولذلك نهى عن قتلها، وعن قتل الهدهد؛ لأنه كان دليل سليمان على الماء ورسوله إلى بلقيس.
وقال عكرمة: إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارًا بوالديه والصُّرَد يقال له الصوّام.
وروي عن أبي هريرة قال: أوّل من صام الصُّرد ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشام إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة معه والصُّرَد، فكان الصّرد دليله على الموضع والسكينة مقداره، فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت وقالت: ابن يا إبراهيم على مقدار ظلّي.
وقد تقدّم في الأعراف سبب النهي عن قتل الضّفدع وفي النحل النهي عن قتل النحل والحمد لله.